قلقسة
..................
..................
أسامة الدناصوري
ذات مرة, كنت جالسا وسط بقية المرضي في الاستراحة, منتظرا سماع اسمي, للدخول لمقابلة الاستشاري, لكي يكتب لي علاجي الشهري, أو ليمدد لي أجازتي, أو ليجدد لي قرار الغسيل, لثلاثة أشهر أخري.
بدأت الممرضة المصاحبة للدكتور بمناداة كل من يحين دوره, لم أكن أسمعها بالطبع, ولكني كنت ألاحظ كل فترة, انتفاض أحد الجالسين, وتوجهه لغرفة الكشف.
أيقنت أنني لن أسمع اسمي إن ظللت جالسا مكاني, ووجدت لزاما علي أن أذهب للوقوف بالقرب من الباب, بجوار آخرين ضعاف السمع مثلي. أو آخرين يفتشون عن ثغرة يمرقون منها, قبل أن يحين دورهم الحقيقي.
كنت أذهب إلي الباب, لأكتشف أن المنادي ليس أنا, فأعود للجلوس, وبعد قليل أعاود الكرة.كنت عائدا للجلوس في إحدي المرأت, وإذا بالمريض الجالس بجواري يقول:
ـ لمؤاخذة ياأستاذ… أنا شايفك رايح جي وتاعب نفسك, خليك مستريح…. ولما تسمع اسمك.. قوم.
ـ ماهي دي المشكلة ياحاج, أنا سمعي تقيل, ومستحيل هاسمع اسمي وأنا قاعد هنا.
ـ بسيطة.. قوللي علي اسمك… وأنا انبهك أول مااسمعه.
ـ والله يبقي كتر خيرك, أنا اسمي ياسيدي: أسامة الدناصوري.
ـ سلامة الدمنهوري؟
ـ خلاص ياحاج ماتشغلش بالك( قلتها وأنا أكتم ضحكتي)
وقمت من فوري للوقوف بجوار الباب.
ألفت هذه النكتة من الألف إلي الياء, فقط لنضخك أنا وأصدقائي, أصدقائي القتلة, الأوغاد, الذين بمجرد تيقنهم من أريحيتي, وعدم حساسيتي تجاه الأمر, حتي شرعوا ينتفننون في التنذر وإشعال الوقت بالصحك والمزاج, حول حكاية ضعف سمعي.
لكن في الحقيقة أمنحهم العذر كله في فعل ذلك, لأنني أنا نفسي كنت الأكثر تفنتا في التندر علي سمعي الضعيف.
أصيب جهازي السمعي بالعطب منذ سنوات طويلة. قال الأطباء, حدث ذلك بسبب إفراطك في تناول المضادات الحيوية, وبالذات( الجراميسين), وباقي عائلة( التتراسيلكين).
أذكر أنني عشت لسنوات أتناول الجراميسين علي هيئة حقن, لمقاومة الالتهاب الذي يحدث في جهازي البولي, بسبب الارتجاع من ناحية, واستخدام القساطر بشكل دائم من ناحية أخري. قالوا أيضا أن الجراميسين يدمر العصب السمعي مباشرة, ولاسبيل إلي إصلاح ذلك التلف.
ذهبت إلي أكثر من طبيب, وأجريت قياسا للسمع أكثر من مرة, وكانت النتيجة: أن حساسية الأذنين للسمع ضعيفة, تكاد تصل إلي30%. ونصحت باقتناء سماعة. لكنني نفرت من الفكرة واكتفيت بقدراتي المتواضعة علي السماع, إذ أن الحياة تسير بدون سماعة. ولست أعتقد أن السماعة. ستجعل الحياة تسير أفضل.
اكتشفت أنني أسمع الأصوات التي تنحصر بين درجتين محددتين من التردد,… بوضوح, وبلا أية معاناة. أما تلك التي يكون ترتدها أعلي أو أقل, فلا أسمعها مطلقا.
مثلا:جرس الباب:
أنا لا أسمع صوت الجرس علي الإطلاق. إلا إذا كنت في انتظار أحدهم, وأعلم أنه سيضغط علي زر الجرس بين لحظة وأخري, وأكون جالسا بغرفتي القريبة من الباب, مرهفا كل حواسي, ومطفئا كل جهاز يصدر أصواتا. أو متمشيا في الصالة, حتي أكون أقرب. ورغم ذلك, كنت أتوجه كل بضع دقائق إلي الباب, وأضع عيني علي العين السحرية. خوفا من أن يكون أحدهم هذا, واقفا هناك.
والسبب في ذلك: هو أني لا أسمع صوت جرسنا, لأنه( عصفورة). أي أنه يصدر صوتا يشبه صوصوة العصافير. جربنا فترة تركيب جرس آخر يصدر صوت( بيانو), ونقلنا العصفورة إلي الطرقة, بجوار غرفة النوم, كنت أسمع الجرس جيدا في هذه الفترة. صوت البيانو أميزه بدون عناء, لكن سهير ضجت من الازعاج, وقالت: إن صوت الجرس مزعج جدا, وأنا أشفقت عليها, وعدنا ثانية إلي العصفورة وحده.
حدث كثيرا أن جاء أحد أصدقائي لزيارتي, وعاد من حيث أتي, لأنني لم أسمع الجرس.
يحدث أيضا أن أطلب من أم أحمد: زوجة البواب, أن تأتيني بالجرائد, أو علبة سجائر, وأنتظرها ساعات, ثم أفتح الباب غاضبا, ناويا نهرها علي التأخير, لأجد الجرائد علي الدواسة أمام الباب. فأفهم أنها دقت الجرس إلي أن ملت, ثم نزلت بعد بأسها, قلت لها: لاتدقي الجرس, فلن أسمعه, بل اطرقي الباب بيدك.
(أنا أسمع صوت الطرق جيدا, حتي ولو كان ضعيفا).
صرت أطلب ذلك أيضا من أصدقائي, خصوصا إذا كنت وحدي: قبل أن تطرق الباب, ابعث لي رنه علي الموبايل, ثم اطرق الباب بيدك.
أيضا الموبايل: كان لدي واحد يصدر صوتا ضعيفا علي شكل نبضات. كان يرن أمام عيني ولا أسمعه. اكتشفت أنني لا أسمع النبضات, بل أسمع التونات, أو النغمات. ولذلك تخلصت من ذلك الموبايل, وأخذت موبايل سهير ال(poliphonic)
أنا ألآن اسمعه جيدا.
أسمعه وأنتفض من الخضة في كل مرة.
ذات مرة طلبني أحمد يماني من أسبانيا, وبينما نتحدث,إذا به يقول لي:
ـ جرس الباب بيرن ياأووس.
ـ طب روح افتح, وأنا مستنيك.
ـ هاهاها, ياأووس, جرس الباب بتاعكم هو اللي بيرن.
ـ بقي أنت ف أسبانيا وسامعه;, وأنا اللي علي بعد مترين مش سامعه؟
وبالفعل كان أحدهم نفسه. واقفا بالباب.
تكررت هذه الحكاية أكثر من مرة, مع أحمد, ومع أخرين.
عندما أشاهد فيلما عربيا في السينما مع سهير, يطير مني معظم الحوار, بسبب رداءة الصوت( ليس هو السبب الوحيد بالطبع)
احاول قراءة شفاه الممثلين, واستنباط الكلام بالتقريب, ولا أجد جدوي من سؤال سهير. لأني سأضطر لسؤالها عن كل جملة تقريبا, لكن أفاجأ أحيانا بأن الصالة تضج بالضحك فجأة, وسهير معهم, وإذا بي أنا الوحيد الذي لايضحك في الصالة, فأميل علي سهير:
ـ هوا قال إيه؟…. طب والتاني رد عليه قالوا إيه؟
يحدث كثيرا أن أسمع صوت جرس وهمي يرن في رأسي, أقوم من فوري لأفتح الباب, فلا أجد احدا.
يحدث أيضا أن أكون مارا في الصالة, قادما من المطبخ, أو خارجا من غرفتي, وإذا بهاجس يقول لي: افتح الباب, لعل أحدهم واقف منذ فترة, وقتها لا أكون قد سمعت جرسا حقيقيا, أو وهميا, فقط:
صوت هاجسي:
ومن العجيب, أنني فوجئت مرات, بأن هناك من يقف بالباب فعلا.
ـ طبعا رنيت كتير؟
ـ لا أبدا, دنا لسه كنت هارن الجرس حالا.
مضت فترة كنت أكثر من الالتفاف خلفي كلما سرت في أحد الشوارع المزدحمة, أو أحد الأسواق. أكون علي يقين عندما ألتفت أن هناك من يناديني:( أسااااماااااة).. أقف, وأستدير, وأظل أحدق في الناس, ثم أعود وأكمل طريفي.
يكون المنادي قد صاح: سلامة, أو حمامة, أو علامة, أو مع السلامة, وقس علي ذلك. لكن أذني لاتلتقط سوي المقطع الأخير( آمة), فأظن أنني المقصود بالنداء.
تعلمت أن( أقلقس)( أألأس) معظم الحوارات التي تدور بيني وبين الآخرين, حتي تسير الحياة بنعومة كما تسير.
قلقس يقلقس قلقسة, من القلقاس, وهو حسب تفسيري:( جعل رأسي أشبه بالقلقاسةالصماء, التي لاتعي شيئا, ولاتهتم لشيء).
يبدأ أحدهم كلاما معي, فأجد نفسي أمام عدة خيارات, تتوقف علي مدي قربي من الشخص, أو تخميني بمدي أهمية موضوع الكلام, وأيضا مدي وضوح الكلام الخارج من فم محدثي.
إن كان الكلام غامضا علي من البداية, إما لخفوت صوت المتحدث, أو لأكله بعض الحروف, أو لاضغامه الحروف في بعضها: عند ذلك آخذ قراري( بالألاسة) من البداية.
ولكني أعطيه وجهي المدرب جيدا, ويكون نصيبي من الحوار الذي قد يدوم لدقائق, هو الإيماءات, والابتسامات, وفتح العينين وإغلاقها بمقدار, وتقلص عضلات الوجه, بما يوحي بأني أشارك, وببلاغة كافية.
تمر معظم هذه( الألأسات) بسلام. ولكن الأمر لايعدم مطبا هناك أو هناك, وأكثر المطبات التي أخشاها, هو أن يوجه لي محدثي سؤالا وسط الكلام, يفترض أن أجيب عليه بنعم, أولا. فيفاجأ بأني أجيبه كما أجبته طوال الحوار: بابتسامة: أو بهزة من رأسي, أو بنظرة ذات مغزي, فينقطع المتحدث عن الكلام, وهو لايدرك من الأمر شيئا, وأعرف أنا علي الفور, أنني قد وقعت في المطب المحظور.
يحدث هذا مع قلة من أصدقائي, منهم( محمد هاشم) لأنه من ذلك النوع الذي لا أستطيع أن أفسر كلامه, حتي لو قالة كلمة كلمة, وبصوت عال. إلا إذا أراد أن يقرأ لي نصا كتبه, أو يحكي لي أمرا غاية في الأهمية, ساعتها أستوقفه كل دقيقة:
ـ أيه؟….. من تاني الجملة الأخيرة… بتقول إيه بالظبط؟
أما في الأحوال العادية, فأنا أقلقسة وأنا مرتاح الضمير. وذلك انتقاما منه:
يحدث مثلا أن نكون جالسين في الدار( ميريت) مع بقية الأصدقاء, وأساله اي سؤال, مثلا:
ـ أنت هاتسهر فين الليلة.
ـ في الجوريون
أكون قد سمعتها صحيحة:( في الجوريون). واكتفيت, لكنه لايكتفي بل يأتي ليميل علي رأسي, واضعا فمه في أذني, ويصرخ:الجوريووون. ثم يمضي وهو يداري ضحكته.
اسامة الدناصوري