Tuesday, March 20, 2007

قلقسة

قلقسة
..................

أسامة الدناصوري


ذات مرة‏,‏ كنت جالسا وسط بقية المرضي في الاستراحة‏,‏ منتظرا سماع اسمي‏,‏ للدخول لمقابلة الاستشاري‏,‏ لكي يكتب لي علاجي الشهري‏,‏ أو ليمدد لي أجازتي‏,‏ أو ليجدد لي قرار الغسيل‏,‏ لثلاثة أشهر أخري‏.‏

بدأت الممرضة المصاحبة للدكتور بمناداة كل من يحين دوره‏,‏ لم أكن أسمعها بالطبع‏,‏ ولكني كنت ألاحظ كل فترة‏,‏ انتفاض أحد الجالسين‏,‏ وتوجهه لغرفة الكشف‏.‏

أيقنت أنني لن أسمع اسمي إن ظللت جالسا مكاني‏,‏ ووجدت لزاما علي أن أذهب للوقوف بالقرب من الباب‏,‏ بجوار آخرين ضعاف السمع مثلي‏.‏ أو آخرين يفتشون عن ثغرة يمرقون منها‏,‏ قبل أن يحين دورهم الحقيقي‏.‏

كنت أذهب إلي الباب‏,‏ لأكتشف أن المنادي ليس أنا‏,‏ فأعود للجلوس‏,‏ وبعد قليل أعاود الكرة‏.‏كنت عائدا للجلوس في إحدي المرأت‏,‏ وإذا بالمريض الجالس بجواري يقول‏:‏
ـ لمؤاخذة ياأستاذ‏…‏ أنا شايفك رايح جي وتاعب نفسك‏,‏ خليك مستريح‏….‏ ولما تسمع اسمك‏..‏ قوم‏.‏

ـ ماهي دي المشكلة ياحاج‏,‏ أنا سمعي تقيل‏,‏ ومستحيل هاسمع اسمي وأنا قاعد هنا‏.‏

ـ بسيطة‏..‏ قوللي علي اسمك‏…‏ وأنا انبهك أول مااسمعه‏.

ـ والله يبقي كتر خيرك‏,‏ أنا اسمي ياسيدي‏:‏ أسامة الدناصوري‏.‏

ـ سلامة الدمنهوري؟

ـ خلاص ياحاج ماتشغلش بالك‏(‏ قلتها وأنا أكتم ضحكتي‏)‏

وقمت من فوري للوقوف بجوار الباب‏.‏
ألفت هذه النكتة من الألف إلي الياء‏,‏ فقط لنضخك أنا وأصدقائي‏,‏ أصدقائي القتلة‏,‏ الأوغاد‏,‏ الذين بمجرد تيقنهم من أريحيتي‏,‏ وعدم حساسيتي تجاه الأمر‏,‏ حتي شرعوا ينتفننون في التنذر وإشعال الوقت بالصحك والمزاج‏,‏ حول حكاية ضعف سمعي‏.‏

لكن في الحقيقة أمنحهم العذر كله في فعل ذلك‏,‏ لأنني أنا نفسي كنت الأكثر تفنتا في التندر علي سمعي الضعيف‏.‏

أصيب جهازي السمعي بالعطب منذ سنوات طويلة‏.‏ قال الأطباء‏,‏ حدث ذلك بسبب إفراطك في تناول المضادات الحيوية‏,‏ وبالذات‏(‏ الجراميسين‏),‏ وباقي عائلة‏(‏ التتراسيلكين‏).‏

أذكر أنني عشت لسنوات أتناول الجراميسين علي هيئة حقن‏,‏ لمقاومة الالتهاب الذي يحدث في جهازي البولي‏,‏ بسبب الارتجاع من ناحية‏,‏ واستخدام القساطر بشكل دائم من ناحية أخري‏.‏ قالوا أيضا أن الجراميسين يدمر العصب السمعي مباشرة‏,‏ ولاسبيل إلي إصلاح ذلك التلف‏.‏

ذهبت إلي أكثر من طبيب‏,‏ وأجريت قياسا للسمع أكثر من مرة‏,‏ وكانت النتيجة‏:‏ أن حساسية الأذنين للسمع ضعيفة‏,‏ تكاد تصل إلي‏30%.‏ ونصحت باقتناء سماعة‏.‏ لكنني نفرت من الفكرة واكتفيت بقدراتي المتواضعة علي السماع‏,‏ إذ أن الحياة تسير بدون سماعة‏.‏ ولست أعتقد أن السماعة‏.‏ ستجعل الحياة تسير أفضل‏.‏

اكتشفت أنني أسمع الأصوات التي تنحصر بين درجتين محددتين من التردد‏,…‏ بوضوح‏,‏ وبلا أية معاناة‏.‏ أما تلك التي يكون ترتدها أعلي أو أقل‏,‏ فلا أسمعها مطلقا‏.

مثلا‏:‏جرس الباب‏:

أنا لا أسمع صوت الجرس علي الإطلاق‏.‏ إلا إذا كنت في انتظار أحدهم‏,‏ وأعلم أنه سيضغط علي زر الجرس بين لحظة وأخري‏,‏ وأكون جالسا بغرفتي القريبة من الباب‏,‏ مرهفا كل حواسي‏,‏ ومطفئا كل جهاز يصدر أصواتا‏.‏ أو متمشيا في الصالة‏,‏ حتي أكون أقرب‏.‏ ورغم ذلك‏,‏ كنت أتوجه كل بضع دقائق إلي الباب‏,‏ وأضع عيني علي العين السحرية‏.‏ خوفا من أن يكون أحدهم هذا‏,‏ واقفا هناك‏.‏

والسبب في ذلك‏:‏ هو أني لا أسمع صوت جرسنا‏,‏ لأنه‏(‏ عصفورة‏).‏ أي أنه يصدر صوتا يشبه صوصوة العصافير‏.‏ جربنا فترة تركيب جرس آخر يصدر صوت‏(‏ بيانو‏),‏ ونقلنا العصفورة إلي الطرقة‏,‏ بجوار غرفة النوم‏,‏ كنت أسمع الجرس جيدا في هذه الفترة‏.‏ صوت البيانو أميزه بدون عناء‏,‏ لكن سهير ضجت من الازعاج‏,‏ وقالت‏:‏ إن صوت الجرس مزعج جدا‏,‏ وأنا أشفقت عليها‏,‏ وعدنا ثانية إلي العصفورة وحده‏.‏

حدث كثيرا أن جاء أحد أصدقائي لزيارتي‏,‏ وعاد من حيث أتي‏,‏ لأنني لم أسمع الجرس‏.‏

يحدث أيضا أن أطلب من أم أحمد‏:‏ زوجة البواب‏,‏ أن تأتيني بالجرائد‏,‏ أو علبة سجائر‏,‏ وأنتظرها ساعات‏,‏ ثم أفتح الباب غاضبا‏,‏ ناويا نهرها علي التأخير‏,‏ لأجد الجرائد علي الدواسة أمام الباب‏.‏ فأفهم أنها دقت الجرس إلي أن ملت‏,‏ ثم نزلت بعد بأسها‏,‏ قلت لها‏:‏ لاتدقي الجرس‏,‏ فلن أسمعه‏,‏ بل اطرقي الباب بيدك‏.‏

(‏أنا أسمع صوت الطرق جيدا‏,‏ حتي ولو كان ضعيفا‏).‏


صرت أطلب ذلك أيضا من أصدقائي‏,‏ خصوصا إذا كنت وحدي‏:‏ قبل أن تطرق الباب‏,‏ ابعث لي رنه علي الموبايل‏,‏ ثم اطرق الباب بيدك‏.‏

أيضا الموبايل‏:‏ كان لدي واحد يصدر صوتا ضعيفا علي شكل نبضات‏.‏ كان يرن أمام عيني ولا أسمعه‏.‏ اكتشفت أنني لا أسمع النبضات‏,‏ بل أسمع التونات‏,‏ أو النغمات‏.‏ ولذلك تخلصت من ذلك الموبايل‏,‏ وأخذت موبايل سهير ال‏(poliphonic)‏
أنا ألآن اسمعه جيدا‏.‏
أسمعه وأنتفض من الخضة في كل مرة‏.‏

ذات مرة طلبني أحمد يماني من أسبانيا‏,‏ وبينما نتحدث‏,‏إذا به يقول لي‏:‏
ـ جرس الباب بيرن ياأووس‏.‏

ـ طب روح افتح‏,‏ وأنا مستنيك‏.‏

ـ هاهاها‏,‏ ياأووس‏,‏ جرس الباب بتاعكم هو اللي بيرن‏.‏

ـ بقي أنت ف أسبانيا وسامعه‏;,‏ وأنا اللي علي بعد مترين مش سامعه؟

وبالفعل كان أحدهم نفسه‏.‏ واقفا بالباب‏.‏
تكررت هذه الحكاية أكثر من مرة‏,‏ مع أحمد‏,‏ ومع أخرين‏.‏

عندما أشاهد فيلما عربيا في السينما مع سهير‏,‏ يطير مني معظم الحوار‏,‏ بسبب رداءة الصوت‏(‏ ليس هو السبب الوحيد بالطبع‏)‏

احاول قراءة شفاه الممثلين‏,‏ واستنباط الكلام بالتقريب‏,‏ ولا أجد جدوي من سؤال سهير‏.‏ لأني سأضطر لسؤالها عن كل جملة تقريبا‏,‏ لكن أفاجأ أحيانا بأن الصالة تضج بالضحك فجأة‏,‏ وسهير معهم‏,‏ وإذا بي أنا الوحيد الذي لايضحك في الصالة‏,‏ فأميل علي سهير‏:‏

ـ هوا قال إيه؟‏….‏ طب والتاني رد عليه قالوا إيه؟
يحدث كثيرا أن أسمع صوت جرس وهمي يرن في رأسي‏,‏ أقوم من فوري لأفتح الباب‏,‏ فلا أجد احدا‏.‏

يحدث أيضا أن أكون مارا في الصالة‏,‏ قادما من المطبخ‏,‏ أو خارجا من غرفتي‏,‏ وإذا بهاجس يقول لي‏:‏ افتح الباب‏,‏ لعل أحدهم واقف منذ فترة‏,‏ وقتها لا أكون قد سمعت جرسا حقيقيا‏,‏ أو وهميا‏,‏ فقط‏:‏

صوت هاجسي‏:‏
ومن العجيب‏,‏ أنني فوجئت مرات‏,‏ بأن هناك من يقف بالباب فعلا‏.‏
ـ طبعا رنيت كتير؟
ـ لا أبدا‏,‏ دنا لسه كنت هارن الجرس حالا‏.‏

مضت فترة كنت أكثر من الالتفاف خلفي كلما سرت في أحد الشوارع المزدحمة‏,‏ أو أحد الأسواق‏.‏ أكون علي يقين عندما ألتفت أن هناك من يناديني‏:(‏ أسااااماااااة‏)..‏ أقف‏,‏ وأستدير‏,‏ وأظل أحدق في الناس‏,‏ ثم أعود وأكمل طريفي‏.‏



يكون المنادي قد صاح‏:‏ سلامة‏,‏ أو حمامة‏,‏ أو علامة‏,‏ أو مع السلامة‏,‏ وقس علي ذلك‏.‏ لكن أذني لاتلتقط سوي المقطع الأخير‏(‏ آمة‏),‏ فأظن أنني المقصود بالنداء‏.‏

تعلمت أن‏(‏ أقلقس‏)(‏ أألأس‏)‏ معظم الحوارات التي تدور بيني وبين الآخرين‏,‏ حتي تسير الحياة بنعومة كما تسير‏.‏

قلقس يقلقس قلقسة‏,‏ من القلقاس‏,‏ وهو حسب تفسيري‏:(‏ جعل رأسي أشبه بالقلقاسةالصماء‏,‏ التي لاتعي شيئا‏,‏ ولاتهتم لشيء‏).‏

يبدأ أحدهم كلاما معي‏,‏ فأجد نفسي أمام عدة خيارات‏,‏ تتوقف علي مدي قربي من الشخص‏,‏ أو تخميني بمدي أهمية موضوع الكلام‏,‏ وأيضا مدي وضوح الكلام الخارج من فم محدثي‏.‏

إن كان الكلام غامضا علي من البداية‏,‏ إما لخفوت صوت المتحدث‏,‏ أو لأكله بعض الحروف‏,‏ أو لاضغامه الحروف في بعضها‏:‏ عند ذلك آخذ قراري‏(‏ بالألاسة‏)‏ من البداية‏.‏

ولكني أعطيه وجهي المدرب جيدا‏,‏ ويكون نصيبي من الحوار الذي قد يدوم لدقائق‏,‏ هو الإيماءات‏,‏ والابتسامات‏,‏ وفتح العينين وإغلاقها بمقدار‏,‏ وتقلص عضلات الوجه‏,‏ بما يوحي بأني أشارك‏,‏ وببلاغة كافية‏.‏

تمر معظم هذه‏(‏ الألأسات‏)‏ بسلام‏.‏ ولكن الأمر لايعدم مطبا هناك أو هناك‏,‏ وأكثر المطبات التي أخشاها‏,‏ هو أن يوجه لي محدثي سؤالا وسط الكلام‏,‏ يفترض أن أجيب عليه بنعم‏,‏ أولا‏.‏ فيفاجأ بأني أجيبه كما أجبته طوال الحوار‏:‏ بابتسامة‏:‏ أو بهزة من رأسي‏,‏ أو بنظرة ذات مغزي‏,‏ فينقطع المتحدث عن الكلام‏,‏ وهو لايدرك من الأمر شيئا‏,‏ وأعرف أنا علي الفور‏,‏ أنني قد وقعت في المطب المحظور‏.‏

يحدث هذا مع قلة من أصدقائي‏,‏ منهم‏(‏ محمد هاشم‏)‏ لأنه من ذلك النوع الذي لا أستطيع أن أفسر كلامه‏,‏ حتي لو قالة كلمة كلمة‏,‏ وبصوت عال‏.‏ إلا إذا أراد أن يقرأ لي نصا كتبه‏,‏ أو يحكي لي أمرا غاية في الأهمية‏,‏ ساعتها أستوقفه كل دقيقة‏:‏
ـ أيه؟‏…..‏ من تاني الجملة الأخيرة‏…‏ بتقول إيه بالظبط؟

أما في الأحوال العادية‏,‏ فأنا أقلقسة وأنا مرتاح الضمير‏.‏ وذلك انتقاما منه‏:

يحدث مثلا أن نكون جالسين في الدار‏(‏ ميريت‏)‏ مع بقية الأصدقاء‏,‏ وأساله اي سؤال‏,‏ مثلا‏:‏
ـ أنت هاتسهر فين الليلة‏.‏

ـ في الجوريون

أكون قد سمعتها صحيحة‏:(‏ في الجوريون‏).‏ واكتفيت‏,‏ لكنه لايكتفي بل يأتي ليميل علي رأسي‏,‏ واضعا فمه في أذني‏,‏ ويصرخ‏:‏الجوريووون‏.‏ ثم يمضي وهو يداري ضحكته‏.
اسامة الدناصوري

Monday, February 12, 2007

كتبت هذا قبل رحيلي

اسمي الدناصوري-
آلوه
- مساء الخير
من فضلك فلان موجود؟
- لا واللهى يا فندم مين حضرتك؟
- أسامة الدناصورى
- مين يافندم؟
- أسامة الديناصورى
- هابلغه حاضر
- شكرا.
هذا مايحدث عادة عندما يرد علىّ أحد يسمع اسمى لأول مرة. ودائما ما أضطر لإلصاق هذه الياء الدخيلة بنونى الوحيدة. لم أكن ادرى إلى أى حد كان لقبى غريبا على الأسماع مما يستدعى أن أكرره مرة أخرى ، وأحيانا مرتين، مبطئا من نطقى له ومرخيا الحبل قليلا للألف الوسطى. خصوصا إذا كنت أمليه على موظف ما يجلس خلف شباك.
بل إننى أحيانا كنت أجدنى مضطرا لأخذ القلم من الموظف وكتابة اسمى فى ورقة جانبية.
وربما كنت أكتفى بالإشارة إليه بعد أن ينتهى من كتابته : - أرجوك حط ألف هنا (الدناااصورى) أو :- من فضلك (صورى ) بالصاد مش بالسين. وغالبا ماكان يحدث أن
يسمع أحدهم اسمى على أنه : أسامة الدمنهورى مثلا.
كل هذا ماكان ليحدث قبل أن أذهب إلى الجامعة وأترك قريتى (محلة مالك) التى كانت عائلتى(الدناصرة) تشغل نصف بيوتها.ولم يكن هناك الكثير من الأسماء التى تفوق اسم الدناصورى ألفة لدى أسماع أبناء محلة مالك بل وأبناء مركز دسوق قاطبة.
عندما التحقت بكلية (العلوم) والتى اخترتها بشكل عبثى ،وكتبتها فى دفتر الرغبات بدلا من كلية (دار العلوم)، والتى تراجعت عن كتابتها فى آخر لحظة، مصغيا إلى صوت غامض هتف بى: انج بحبك للشعر والأدب من مصير كهذا. وأظننى قد فعلت شيئا حسنا.
وأثناء وقوفى فى الردهة منتظرا سماع اسمى لتسلم بطاقتى الجامعيةوالاستمارة التى يتوجب على كل منا ملؤهالتحديد القسم الذى يرغب فى الانضمام إليه من الأقسام الثلاثة:
(جيولوجيا ، بيولوجى ، علوم طبيعية )، صاح الموظف: - اسامة الديناصورى.
فالتوت أعناق كثيرة لترى صاحب الاسم وهو يتسلم بطاقته من الموظف الذى كان هناك يلوح ظل ابتسامة على وجهه.
لاأنكر أنى أحسست بطيف من السحر مسنى وأنا أرى هذه الصلة العجيبة التى نشأت فى غمضة عين بينى وبين كائن عملاق وأسطورى كالديناصور. ولذلك لم أتردد وأنا أختار قسم الجيولوجيا لمعرفتى أنه يضم داخله علم الحفرياتPaleantology والذى تحتل فيه الديناصورات مكانا بارزا يتناسب مع أحجامهالا الهائلة.

أصبح الناس ينطقون اسمى : (الديناصورى) فلا أستوقفهم لتصحيحه، باختصار استمرأت الأمر وعشت عليه ردحا من الزمان.
وكانت سعادتى تكتمل عندما يسألنى أحدهم عن سر تسميتى بهذا الاسم الغريب، فأجيب مستفيضا:
إن السبب يكمن فى أن أحد أجدادى الأوائل اضطر إلى منازلة ديناصور هائج كان يغير على القرية كل ليلة ويخطف أحد أبنائها ، ليفاجأ الجميع بعظامه فقط فى الصباح.
كان الناس وقتها يعيشون فى رعب دائم كما كانو لايستطيعون النوم وهم يسمعون الخوار اللاهث للزاحف العملاق.
مما اضطر جدى للخروج إليه ذات ليلة ممتشقا رمحه الطويل ذا الرأس الحجرى المدبب.
وهكذا استحق جدى الذى عاد محمولا على الأعناق- وإن كان يقال أنه ظل محمولا على الأعناق بقية حياته- استحق عن جدارة لقب قاتل الديناصورات واختصارا : الديناصورى.
وعندما كان يستظرف أحدهم قائلا : ولكن العلم يخبرنا أن الديناصورات انقرضت من ستين مليون سنة ، كنت أجيبه: - أعرف ذلك ولكن مالاتعرفه أنت أن أسرتى العريقة تمتد جذورها إلى حقب الحياة الوسطىMisosoic وبالتحديد : إلى العصر الطباشيرى Jurasic Age
أيام كانت الديناصورات تبرطع هنا وهناك كالمعيز والكلاب الضالة.
كانت خرافتى هذه تعجب الجميع- رغم شيوع الشواهد العلمية التى تكاد تجزم أن عمر الإنسان فى أكثر التقديرات تفاؤلا لايكاد يتخطى بأى حال حاجز المليون سنة-
كما كانت تسكرنى برضى دفعت ثمنا له عاما كاملا من عمرى إذ أننى اكتشفت بعد عدة أيام من بدء الدراسة مدى صعوبة الاستمرار فى هذا القسم ومدى انفصالى عنه، فأوليت له ظهرى وانصرفت تماما إلى بذل كل ما أملكه من وقت وجهد فى نشاطات تتعلق بالشعر والحفلات وخلافه . وبالطبع رسبت فى كل المواد وكان تقديرى العام : ض ج أى لمن لايعرف: ضعيف جدا.
بمرور الوقت اكتشفت أن (الديناصورى ) ليس أسهل وقعا على آذان السامعين من (الدناصورى) فقط ولكنه أكثر جاذبية أيضا.
كان للأول على الأقل معنى ، عندما تتفكك فى الذهن علاقة النسب ويتضح جليا المنسوب إليه بحجمه الهائل.
أنا - أقول هذا لمن لم يعرفنى بعد- شاعر، تنشر قصائدى بين الحين والحين فى بعض الصحف المتخصصة. أحرص دائما على كتابة اسمى فى ذيل القصيدة كما هو (أسامة الدناصورى) ولكننى دائما ما أجد ( الديناصورى )منشورا بدلا منه.
لكن أكثر ماكان يحبطنى هو تلك النظرة الواسعة التى تنطوى على المفاجأة مع بعض من فشل التوقع مصحوبين بابتسامة ماكرة تنبىء عن كم لابأس به من المرح فى عين محدثى
الذى قرأ اسمى من قبل وهو يرانى للمرة الأولى قائلا:
- لقد كنت أتصورك - فى الحقيقة - أضخم من هذا بكثير.
ذات يوم من تلك الأيام التى خلقها الله لتنجلى فيها الحقائق. كنت صاعدا لملاقاة صديقى حسن فى أخبار الأدب . وعند مكتب الأمن سألونى عن اسمى ليبلغوا حسنا بقدومى
- أسامة الدناصورى
- الدناصورى؟ يا أهلا وسهلا ، يا سيد ، تعالى فيه هنا واحد قريبك.
وجاء سيد ، كان رجلا طويلا عريضا أسمر اللون فى اعقد الخامس من عمره.
نظر فى بطاقتى وقرأ الاسم كاملا: (أسامة بهى الدين عبد العزيز الدناصورى)
-الأستاذ منين؟
- من دسوق ، محلة مالك
- آآه أهلا وسهلا ، محسوبك ( سيد عبد الرحمن الدناصورى) من دناصور
- منين؟
دناصور ، منوفية ، بلدك، المفروض تشرفنا وتتعرف على أهلك وأرض أجدادك.

أسامة الدناصوري
مواليد 1960
بكالوريوس علوم البحار من جامعة الإسكندرية سنة 1984
له أربع مجموعات شعرية بينها ديوان بالعامية المصرية وهي:
اشف الجهم (دار مصرية)1991
مثل ذئب أعمى (طبعة محدودة)1996
على هيئة واحد شبهي(عامية -طبعة خاصة)2001
عين سارحة وعين مندهشة(دار ميريت)2003

توفي 5/1/2007م
أثناء غسيل الكلى

وهنا مختارات من شعره:

مرآة الشاعر

أيها الشاعر:
انتبه
هل ستخرج على هذه الصورة؟!
هل ستخرج من وكرك قاصدا المدينة هكذا؟
ألن تنتهي أولا من القصيدة التي بدأتها لتوك؟

أنت أيها الهارب..
من تظن نفسك؟
أتظن أنك قادر على الفرار، ثم الفرار،
هكذا إلى الأبد!

أيها الأحمق
ألا ترى !
هناك شيء ما يطل من بين جنبيك
ياإلهى!
إنه حي، نابضٌ، زلقٌ، رخوٌ، دافىءٌ
يخفق لامعا في الضوء
ألا تشعر حتى بقليل من الألم!!
يالك من مسكين!

خذني معك إذن أيها الشاعر
سأدور خلفك من مقهى لمقهى
و من شارع لشارع
لألملم تلك الزوائد الروحية
التي تتساقط من جسدك على الأسفلت

سأملأ لها وعاء عميقا من دمى
وأدعها تسبح أمام عينيّ
كسرب صغير من الأسماك

إنني أبكى لأجلك أيها الشاعر
أبكى..
لكنني أقسم أنك لو عرفت حكايتي
لبكيتَ أنت.

ذكريات

عِوضاً عن لعبة التذكّر
والحنين .. الدامية المملّة

بدءا من الليلة..
سوف أحلم بكِ ..

ها هي تأتى من بعيد
سابحةً نحو ى بعزم وإصرار
سمكة القرش المختالة الرائعة..

لا..
?بل سمكة أبو سيف
شيطان الماء العابس
بحربتة المشرعة..

آآه
ها أنا مخترق من صدري مرة أخرى
أشق بظهري الأمواج
مخلفا نهيرا صغيرا من الدماء.

ثم..
ها هي القروش النهمة..تتكالب لتبدأ الوليمة.
ياإلهى.
حتى في الحلم
.تطاردني
نفس الذكريات ؟؟

أخوّة

قال لها:
-اطمئني
لا حب ولا رغبة
بدءا من الآن
نحن أخوة في الدم
"محارم"
باختصار:
أنتِ علىّ كظهر أمي

قالت:
-حسنَ
وسكتت قليلا ثم قالت:
-والأخوة عادة لا يحبوننا...
فضلا عن أنهم لا يرغبون فينا.

-بل أحيانا يكرهوننا
-حقا..
لكنهم فجأة يوجدون وقت الشدة
-نعم..
لكن لا تنسى
أن الأذى لا يأتي أحيانا من أحد سواهم
هم وحدهم
....

ومضى..

كان كمن يتعلم المشي
واختفى في أقرب زاوية


كانت تجلس مازالت
تحدق ذاهلة في أثر خطواتة
لم تكن تعرف حقا..
هل كان يتوجّب عليها أن تكون الآن..
سعيدة..أم تعسة.
سنتمنتالية

كنتِ ستموتين بين ذراعيّ
أليس هذا ما اتفقنا عليه ؟
ماذا أصنع إذن بأقراص الفاليوم
التي اشتريت لكِ منها علبة كاملة ؟
هل أبلعها أنا!

لقد تبدلتِ سريعا
أصبحتِ فجأة تتشبثين بالحياة
يا للعجب
..ألحياة!!

أليست هي النفق المعتم الكئيب
ورحلة العذاب المتخبطة التي لاتتنتهى؟!

ثم ماذا سأصنع الآن
بالقصيدة التي أعددتها لرثائِك؟

هل تسخرين منى ؟

لن أغفر لك ذلك أبدا
....

لكن الآن
ما العمل؟
بعد أن رتّبت حياتي المقبلة بالفعل؟

حياتي!!
..لقد أطحتِ بها بضربة واحدة خرقاء

كنت أوشكت على توطيد علاقتي بمحل الزهور
من أجل أن يخصّني بأجملها
وبسعر مناسب
حتى يتسنى لي الرحيل إلى قبركِ كل أسبوع
وفى يدي هدية جميلة

إن قلبي منذ الآن يدق بعنف
كلما مررت بشارع صلاح سالم
وحنين جارف يقودني دوما إلى البساتين
حيث مقبرة العائلة

والبارات:
أجل..
عثرت أخيرا على واحد هادئ وقديم
نوافذه عالية
وحوائطة الخشبية صفراء
..لأذهب إليه كل ليلة
وقد حددت المنضدة المنزوية
التي سأقضى عليها بقية أيامي
أشرب..وأدخن..وأبكى
وسيغدو بإمكان الشعراء الشبان
أن يشيروا إلى دائما:

"إنه السنتمنتالي المتوحد الحزين"

أيتها الجبانة
لقد أفسدتِ كل شيء

من ديوان عين سارحة وعين مندهشة(دار ميريت)2003

أربعة سيناريوهات لمشهد واحد

لماذا تشعر بالوحدة ..
ولديك سرير بهذا الاتساع ،
وعلى مرمى بصرك ..
سماء واطئة من الجير ،
تتجول فيها بعينيك السارحتين ،
لتكتشف - ما شئت - من بورتريهات ناقصة
لغرباء مسالمين
وحروب صامتة لا تنتهي ؟.

لماذا تشعر بالوحدة ..
وبإمكانك تمضية الليلة بالحمام
تصفق قبيل اندفاق البول من مثانتك
ثم تنحني متأملا الرغوة الكثيفة
لتفكر في أول كأس شربته من البيرة
وأول يد عمياء أطبقت على قضيبك
لتدكك فيه
عصا بلاستيكية طويلة
غير عابئة بصراخ طفولتك؟!

لماذا تشعر بالوحدة
وبإمكانك الليلة أيضا
فك الأحزمة المربوطة بعناية
حول ملفاتك المتورّمة
وليحتقن هواء الغرفة
بروائح نفاذة
.. لأزمنة غابرة ؟!

لماذا تشعر بالوحدة إذن
وها أنت تسعى بدأب - عبر الصالة الفسيحة -
ما بين الشرفة والعين السحرية
وفى منتصف الصالة تماما
وبعد أن تترنّح قليلا
بإمكانك أن تنطرح على ظهرك
مفر شحا ساقيك وذراعيك
وبعين حجرية
تصوب نظرة دائمة إلى المصباح المتدلّي من السقف
وبقليل من الإنصات
بإمكانك أيضا التسلي
بملاحقة دقات ساعتك الخافتة

مارس92

أفراح البيرة

لكم هسيس النار في رئتىّ
والرائحة الكريهة لغابة صغيرة تحترق.
ولى..
شبق ماجن يجدف بي دائما نحو دمكم.
صديقي الذي ظل طوال عمره متخفيا وراء قامته
والذي أطلق على نفسه:"الفحل الرومانتيكي"
إمعانا في التخفي
صارحنا أخيرا
أن له أختا سرية لم يعلم بها أبواه
وانه جني فاسق وعربيد لا يقارن

وبكى حين تذكر كيف كان الله يجره من قفاه عنوة -كل جمعة-
إلى الحلاق
ثم أخذ يدبج النكات اللاذعة للنيل منه
واكتشفنا نحن:
أنه طوال الوقت كان نبيا
لكنه جاهد كثيرا في إخفاء علاقة شاذة
كانت تربطه بالرب.

صديقي الطيب:
سنقيم قريبا أفراح البيرة
وستسمعني كلاما كثيرا عن أفخاذ النساء
وأثدائهن الممتلئة.

كان يزورني في نزلي الدائم بالمستشفى
وفى طلعته...
ينطلق بولي المحتبس وتهدأ كليتاي.

لم أره مطلقا بلباسه العسكري.

جاءت مرة معه وذهبت
وحدثني أنها بكت كثيرا ذلك اليوم.

وجدت مؤخرا أنني كنت أحبه هو.
وأنني كنت أقشر له البيضة كل صباح
لكنها كانت أوسع من فمه وأقسى من هشاشة أسنانه.

ولأنه أخفى علىّ جوعه
ظل جوفه فارغا طوال الوقت
إلا منى.

أقوال مأثورة
عن يوميات القديس / بشير السباعي

النساء يا صديقي
محض شائعات يتورط الغيبيّون في تصديقها
بل يصل الأمر بالبعض حدّ الزعم :
أنهم يرونها ,
ويكلمونها ,
ويجالسونها ,
و .... ,
و ..

مارسنا, فرجل عاقل
ملحد..
إلا بما تدركه حواسي
وهذا يحصّنني بما يكفى
لئلا تنخدع عيناي بخيالات زائفة .

واغلب ظني :
أنها بقايا أساطير بالية
وديانات تنتمي لحضارات مندثرة.
.. .. ..
.. .. ..
النساء ؟!

كفى يا صديقي ..
أرجوك .

ديسمبر 92

العربة الحمراء

عربة صديقي حمراء وتشبه الخنفساء تماما

عربة صديقي الحمراء الجميلة التي تشبه الخنفساء
لها بابان اثنان ,
وفتحة رائعة في السقف
وبداخلها علّقت عروس صوفية غزلتها زوجته .

زوجة صديقي التي تجلس دائما بجواره
بينما أجثو أنا على المقعد الخلفي
متشبثا بعروستي الصوفية ،

يالعربة صديقي الجميلة الحمراء !!
لكم حملت كثيرا أن أقودها
ولو مرة واحدة

أكتوبر 92
اللعاب المر

وحدي أسير الآن على الشواطئ وقرب المتنزهات
أحك الهواء بصدري العاري ..
لأجلو الصدأ عن أحضاني

أجلس في البارات وحدي :

قافلة من النساء, انزلقت عبر ثلاثين عاما
من بين زراعي ّ.

في شقة صديقي
لهوتُ مع إحداهن في البانيو
لاعبين معا أين تختبئ الصابونة )

صديقي الذي لم يكن قد مضى على زواجه أكثر من ثلاثة أسابيع
أخذ ينقل عينيه بين زوجته وفتاتي
ثم غادرنا ساهما .

حرنت ( نانا ) أمام سرير الزوجية
المطهم بالساتان الوردي
يومها:
سلخ موكيت الأرضية ركبتي ّ.
.. .. ..
.. .. ..

لكم راودني كثيرا حلم طاقية الإخفاء
لا لأسطوَ على خزانة بنك
ولا لأتلصّص على ما يقوله أصدقائي عنى
عقب رحيلي

فقط : لأطمئن على صمود وجه ( عفاف )
.. أمام التجاعيد
وهل تهدّل ثدياها كثيرا بعد طفلها الثالث .
ولأقف قريبا من تفاصيل الوقت الذي تمضيه
في الحمّام
.. .. ..
.. .. ..
وافقت ( زوزو ) أخيرا
على التجرد من ملابسها تماما
بشرط إطفاء النور.
لكنني غافلتها
وظللت محتفظا بفانلتي , متعللا بالبرد
خشية أن تطلع على حقل البثور الحية الذي يرعى في ظهري.

.. .. ..
.. .. ..
وهكذا
وبعد أن ألقم على عجل أخر كأس
للصيف القابع في أحشائي :
أصرخ محذرا النادل الأخرق الذي يهم بكنس طاولتي
وأنا التقط بأطراف أصابعي فتياتي الثلاث
ممررا إياهن ببراعة حاوي من خلف نظراته
لأسجيهن برفق في جراب سرى لصق القلب تماما.

تقفز في مخيلتي
الصورة الدائمة,
لسرير فارغ. يطفو كقارب ضال ,
وسط بحيرة تموج بسوائل مالحة ,
ويفيض على حوافها
.. لعاب مر.

ديسمبر 92
من ديوان : مثل ذئب أعمى