Tuesday, March 20, 2007

قلقسة

قلقسة
..................

أسامة الدناصوري


ذات مرة‏,‏ كنت جالسا وسط بقية المرضي في الاستراحة‏,‏ منتظرا سماع اسمي‏,‏ للدخول لمقابلة الاستشاري‏,‏ لكي يكتب لي علاجي الشهري‏,‏ أو ليمدد لي أجازتي‏,‏ أو ليجدد لي قرار الغسيل‏,‏ لثلاثة أشهر أخري‏.‏

بدأت الممرضة المصاحبة للدكتور بمناداة كل من يحين دوره‏,‏ لم أكن أسمعها بالطبع‏,‏ ولكني كنت ألاحظ كل فترة‏,‏ انتفاض أحد الجالسين‏,‏ وتوجهه لغرفة الكشف‏.‏

أيقنت أنني لن أسمع اسمي إن ظللت جالسا مكاني‏,‏ ووجدت لزاما علي أن أذهب للوقوف بالقرب من الباب‏,‏ بجوار آخرين ضعاف السمع مثلي‏.‏ أو آخرين يفتشون عن ثغرة يمرقون منها‏,‏ قبل أن يحين دورهم الحقيقي‏.‏

كنت أذهب إلي الباب‏,‏ لأكتشف أن المنادي ليس أنا‏,‏ فأعود للجلوس‏,‏ وبعد قليل أعاود الكرة‏.‏كنت عائدا للجلوس في إحدي المرأت‏,‏ وإذا بالمريض الجالس بجواري يقول‏:‏
ـ لمؤاخذة ياأستاذ‏…‏ أنا شايفك رايح جي وتاعب نفسك‏,‏ خليك مستريح‏….‏ ولما تسمع اسمك‏..‏ قوم‏.‏

ـ ماهي دي المشكلة ياحاج‏,‏ أنا سمعي تقيل‏,‏ ومستحيل هاسمع اسمي وأنا قاعد هنا‏.‏

ـ بسيطة‏..‏ قوللي علي اسمك‏…‏ وأنا انبهك أول مااسمعه‏.

ـ والله يبقي كتر خيرك‏,‏ أنا اسمي ياسيدي‏:‏ أسامة الدناصوري‏.‏

ـ سلامة الدمنهوري؟

ـ خلاص ياحاج ماتشغلش بالك‏(‏ قلتها وأنا أكتم ضحكتي‏)‏

وقمت من فوري للوقوف بجوار الباب‏.‏
ألفت هذه النكتة من الألف إلي الياء‏,‏ فقط لنضخك أنا وأصدقائي‏,‏ أصدقائي القتلة‏,‏ الأوغاد‏,‏ الذين بمجرد تيقنهم من أريحيتي‏,‏ وعدم حساسيتي تجاه الأمر‏,‏ حتي شرعوا ينتفننون في التنذر وإشعال الوقت بالصحك والمزاج‏,‏ حول حكاية ضعف سمعي‏.‏

لكن في الحقيقة أمنحهم العذر كله في فعل ذلك‏,‏ لأنني أنا نفسي كنت الأكثر تفنتا في التندر علي سمعي الضعيف‏.‏

أصيب جهازي السمعي بالعطب منذ سنوات طويلة‏.‏ قال الأطباء‏,‏ حدث ذلك بسبب إفراطك في تناول المضادات الحيوية‏,‏ وبالذات‏(‏ الجراميسين‏),‏ وباقي عائلة‏(‏ التتراسيلكين‏).‏

أذكر أنني عشت لسنوات أتناول الجراميسين علي هيئة حقن‏,‏ لمقاومة الالتهاب الذي يحدث في جهازي البولي‏,‏ بسبب الارتجاع من ناحية‏,‏ واستخدام القساطر بشكل دائم من ناحية أخري‏.‏ قالوا أيضا أن الجراميسين يدمر العصب السمعي مباشرة‏,‏ ولاسبيل إلي إصلاح ذلك التلف‏.‏

ذهبت إلي أكثر من طبيب‏,‏ وأجريت قياسا للسمع أكثر من مرة‏,‏ وكانت النتيجة‏:‏ أن حساسية الأذنين للسمع ضعيفة‏,‏ تكاد تصل إلي‏30%.‏ ونصحت باقتناء سماعة‏.‏ لكنني نفرت من الفكرة واكتفيت بقدراتي المتواضعة علي السماع‏,‏ إذ أن الحياة تسير بدون سماعة‏.‏ ولست أعتقد أن السماعة‏.‏ ستجعل الحياة تسير أفضل‏.‏

اكتشفت أنني أسمع الأصوات التي تنحصر بين درجتين محددتين من التردد‏,…‏ بوضوح‏,‏ وبلا أية معاناة‏.‏ أما تلك التي يكون ترتدها أعلي أو أقل‏,‏ فلا أسمعها مطلقا‏.

مثلا‏:‏جرس الباب‏:

أنا لا أسمع صوت الجرس علي الإطلاق‏.‏ إلا إذا كنت في انتظار أحدهم‏,‏ وأعلم أنه سيضغط علي زر الجرس بين لحظة وأخري‏,‏ وأكون جالسا بغرفتي القريبة من الباب‏,‏ مرهفا كل حواسي‏,‏ ومطفئا كل جهاز يصدر أصواتا‏.‏ أو متمشيا في الصالة‏,‏ حتي أكون أقرب‏.‏ ورغم ذلك‏,‏ كنت أتوجه كل بضع دقائق إلي الباب‏,‏ وأضع عيني علي العين السحرية‏.‏ خوفا من أن يكون أحدهم هذا‏,‏ واقفا هناك‏.‏

والسبب في ذلك‏:‏ هو أني لا أسمع صوت جرسنا‏,‏ لأنه‏(‏ عصفورة‏).‏ أي أنه يصدر صوتا يشبه صوصوة العصافير‏.‏ جربنا فترة تركيب جرس آخر يصدر صوت‏(‏ بيانو‏),‏ ونقلنا العصفورة إلي الطرقة‏,‏ بجوار غرفة النوم‏,‏ كنت أسمع الجرس جيدا في هذه الفترة‏.‏ صوت البيانو أميزه بدون عناء‏,‏ لكن سهير ضجت من الازعاج‏,‏ وقالت‏:‏ إن صوت الجرس مزعج جدا‏,‏ وأنا أشفقت عليها‏,‏ وعدنا ثانية إلي العصفورة وحده‏.‏

حدث كثيرا أن جاء أحد أصدقائي لزيارتي‏,‏ وعاد من حيث أتي‏,‏ لأنني لم أسمع الجرس‏.‏

يحدث أيضا أن أطلب من أم أحمد‏:‏ زوجة البواب‏,‏ أن تأتيني بالجرائد‏,‏ أو علبة سجائر‏,‏ وأنتظرها ساعات‏,‏ ثم أفتح الباب غاضبا‏,‏ ناويا نهرها علي التأخير‏,‏ لأجد الجرائد علي الدواسة أمام الباب‏.‏ فأفهم أنها دقت الجرس إلي أن ملت‏,‏ ثم نزلت بعد بأسها‏,‏ قلت لها‏:‏ لاتدقي الجرس‏,‏ فلن أسمعه‏,‏ بل اطرقي الباب بيدك‏.‏

(‏أنا أسمع صوت الطرق جيدا‏,‏ حتي ولو كان ضعيفا‏).‏


صرت أطلب ذلك أيضا من أصدقائي‏,‏ خصوصا إذا كنت وحدي‏:‏ قبل أن تطرق الباب‏,‏ ابعث لي رنه علي الموبايل‏,‏ ثم اطرق الباب بيدك‏.‏

أيضا الموبايل‏:‏ كان لدي واحد يصدر صوتا ضعيفا علي شكل نبضات‏.‏ كان يرن أمام عيني ولا أسمعه‏.‏ اكتشفت أنني لا أسمع النبضات‏,‏ بل أسمع التونات‏,‏ أو النغمات‏.‏ ولذلك تخلصت من ذلك الموبايل‏,‏ وأخذت موبايل سهير ال‏(poliphonic)‏
أنا ألآن اسمعه جيدا‏.‏
أسمعه وأنتفض من الخضة في كل مرة‏.‏

ذات مرة طلبني أحمد يماني من أسبانيا‏,‏ وبينما نتحدث‏,‏إذا به يقول لي‏:‏
ـ جرس الباب بيرن ياأووس‏.‏

ـ طب روح افتح‏,‏ وأنا مستنيك‏.‏

ـ هاهاها‏,‏ ياأووس‏,‏ جرس الباب بتاعكم هو اللي بيرن‏.‏

ـ بقي أنت ف أسبانيا وسامعه‏;,‏ وأنا اللي علي بعد مترين مش سامعه؟

وبالفعل كان أحدهم نفسه‏.‏ واقفا بالباب‏.‏
تكررت هذه الحكاية أكثر من مرة‏,‏ مع أحمد‏,‏ ومع أخرين‏.‏

عندما أشاهد فيلما عربيا في السينما مع سهير‏,‏ يطير مني معظم الحوار‏,‏ بسبب رداءة الصوت‏(‏ ليس هو السبب الوحيد بالطبع‏)‏

احاول قراءة شفاه الممثلين‏,‏ واستنباط الكلام بالتقريب‏,‏ ولا أجد جدوي من سؤال سهير‏.‏ لأني سأضطر لسؤالها عن كل جملة تقريبا‏,‏ لكن أفاجأ أحيانا بأن الصالة تضج بالضحك فجأة‏,‏ وسهير معهم‏,‏ وإذا بي أنا الوحيد الذي لايضحك في الصالة‏,‏ فأميل علي سهير‏:‏

ـ هوا قال إيه؟‏….‏ طب والتاني رد عليه قالوا إيه؟
يحدث كثيرا أن أسمع صوت جرس وهمي يرن في رأسي‏,‏ أقوم من فوري لأفتح الباب‏,‏ فلا أجد احدا‏.‏

يحدث أيضا أن أكون مارا في الصالة‏,‏ قادما من المطبخ‏,‏ أو خارجا من غرفتي‏,‏ وإذا بهاجس يقول لي‏:‏ افتح الباب‏,‏ لعل أحدهم واقف منذ فترة‏,‏ وقتها لا أكون قد سمعت جرسا حقيقيا‏,‏ أو وهميا‏,‏ فقط‏:‏

صوت هاجسي‏:‏
ومن العجيب‏,‏ أنني فوجئت مرات‏,‏ بأن هناك من يقف بالباب فعلا‏.‏
ـ طبعا رنيت كتير؟
ـ لا أبدا‏,‏ دنا لسه كنت هارن الجرس حالا‏.‏

مضت فترة كنت أكثر من الالتفاف خلفي كلما سرت في أحد الشوارع المزدحمة‏,‏ أو أحد الأسواق‏.‏ أكون علي يقين عندما ألتفت أن هناك من يناديني‏:(‏ أسااااماااااة‏)..‏ أقف‏,‏ وأستدير‏,‏ وأظل أحدق في الناس‏,‏ ثم أعود وأكمل طريفي‏.‏



يكون المنادي قد صاح‏:‏ سلامة‏,‏ أو حمامة‏,‏ أو علامة‏,‏ أو مع السلامة‏,‏ وقس علي ذلك‏.‏ لكن أذني لاتلتقط سوي المقطع الأخير‏(‏ آمة‏),‏ فأظن أنني المقصود بالنداء‏.‏

تعلمت أن‏(‏ أقلقس‏)(‏ أألأس‏)‏ معظم الحوارات التي تدور بيني وبين الآخرين‏,‏ حتي تسير الحياة بنعومة كما تسير‏.‏

قلقس يقلقس قلقسة‏,‏ من القلقاس‏,‏ وهو حسب تفسيري‏:(‏ جعل رأسي أشبه بالقلقاسةالصماء‏,‏ التي لاتعي شيئا‏,‏ ولاتهتم لشيء‏).‏

يبدأ أحدهم كلاما معي‏,‏ فأجد نفسي أمام عدة خيارات‏,‏ تتوقف علي مدي قربي من الشخص‏,‏ أو تخميني بمدي أهمية موضوع الكلام‏,‏ وأيضا مدي وضوح الكلام الخارج من فم محدثي‏.‏

إن كان الكلام غامضا علي من البداية‏,‏ إما لخفوت صوت المتحدث‏,‏ أو لأكله بعض الحروف‏,‏ أو لاضغامه الحروف في بعضها‏:‏ عند ذلك آخذ قراري‏(‏ بالألاسة‏)‏ من البداية‏.‏

ولكني أعطيه وجهي المدرب جيدا‏,‏ ويكون نصيبي من الحوار الذي قد يدوم لدقائق‏,‏ هو الإيماءات‏,‏ والابتسامات‏,‏ وفتح العينين وإغلاقها بمقدار‏,‏ وتقلص عضلات الوجه‏,‏ بما يوحي بأني أشارك‏,‏ وببلاغة كافية‏.‏

تمر معظم هذه‏(‏ الألأسات‏)‏ بسلام‏.‏ ولكن الأمر لايعدم مطبا هناك أو هناك‏,‏ وأكثر المطبات التي أخشاها‏,‏ هو أن يوجه لي محدثي سؤالا وسط الكلام‏,‏ يفترض أن أجيب عليه بنعم‏,‏ أولا‏.‏ فيفاجأ بأني أجيبه كما أجبته طوال الحوار‏:‏ بابتسامة‏:‏ أو بهزة من رأسي‏,‏ أو بنظرة ذات مغزي‏,‏ فينقطع المتحدث عن الكلام‏,‏ وهو لايدرك من الأمر شيئا‏,‏ وأعرف أنا علي الفور‏,‏ أنني قد وقعت في المطب المحظور‏.‏

يحدث هذا مع قلة من أصدقائي‏,‏ منهم‏(‏ محمد هاشم‏)‏ لأنه من ذلك النوع الذي لا أستطيع أن أفسر كلامه‏,‏ حتي لو قالة كلمة كلمة‏,‏ وبصوت عال‏.‏ إلا إذا أراد أن يقرأ لي نصا كتبه‏,‏ أو يحكي لي أمرا غاية في الأهمية‏,‏ ساعتها أستوقفه كل دقيقة‏:‏
ـ أيه؟‏…..‏ من تاني الجملة الأخيرة‏…‏ بتقول إيه بالظبط؟

أما في الأحوال العادية‏,‏ فأنا أقلقسة وأنا مرتاح الضمير‏.‏ وذلك انتقاما منه‏:

يحدث مثلا أن نكون جالسين في الدار‏(‏ ميريت‏)‏ مع بقية الأصدقاء‏,‏ وأساله اي سؤال‏,‏ مثلا‏:‏
ـ أنت هاتسهر فين الليلة‏.‏

ـ في الجوريون

أكون قد سمعتها صحيحة‏:(‏ في الجوريون‏).‏ واكتفيت‏,‏ لكنه لايكتفي بل يأتي ليميل علي رأسي‏,‏ واضعا فمه في أذني‏,‏ ويصرخ‏:‏الجوريووون‏.‏ ثم يمضي وهو يداري ضحكته‏.
اسامة الدناصوري

3 comments:

Lemonada said...

الف سلامة عليك المهم انك تفضل تسمع الي جواك وعلى فكرة يمكن ربنا بحبك عشان مابستمش الضجة والنميمة والحجات المش كويسة الي بغاروا منك بقولوها عليك :)

mohammed said...

الله يرحمك يا أسامة
الله يرحمك

محمد عادل \ أوسكار

أسما عواد said...

رحمة الله عليك يا أسامة